afterheader desktop

afterheader desktop

after Header Mobile

after Header Mobile

مراحل تكوين الجنين بين العلم و الدين

هبة زووم ـ ليلى البصري
لقد مر علم الأجنة عبر عصور التاريخ، من عدة مراحل، قبل أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم ملموس… أولها ما يسمى بالمرحلة الوصفية؛ و التي يعود تاريخها إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد و استمرت حتى القرن التاسع عشر الميلادي! اقتصر خلالها علم الأجنة على وصف الملاحظات الخاصة بظاهرة تطور الجنين… و كلها كانت مستندة إلى تصورات ذهنية و تخيلات عقلية، و تخمينات… لا إثبات لها.  

و لم تُدوّن منذ سنة 200 م حتى القرن السادس عشر، أية معلومة عن علم الأجنة… و ظل المفهوم الخاطئ الذي جاء به أريسطو طاليس، بأن الجنين يتخلق من دم الحيض، سائداً لعدة قرون… حتى القرن السادس عشر و ما بعده، إلى أن مهدت أبحاث العلماء: ” فيساليوس ” و فابريسيوس ” و ” هارفي ” لبدئ مرحلة جديدة في علم الأجنة، و هي ما يسمى بمرحلة الفحص المجهري… ليتم بعد ذلك اكتشاف الحيوان المنوي على يد العالمين: فان لوفينهوك، و “هام”، و ذلك سنة 1701م.

لم يكن المجهر كافياً لفك لغز تكوين الجنين… و تفرقت آراء العلماء و زاد جدلهم، فمنهم من ظن أن الإنسان يكون خلقاً تاماً داخل الحيوان المنوي، فيتم قذفه داخل الرحم حيث ينمو حتى الولادة… و منهم من يرى أن الإنسان يخلق خلقا تاماً داخل بيضة… و غير ذلك من الآراء و المعتقدات التي لا تمت الى الواقع بصلة… و لم ينته هذا الجدل الواسع إلا بحلول سنة 1775م (تقريبا)، حيث اثبتت العالمة: ” سبالانزاني ” أهمية كل من البويضة و الحيوان المنوي في عملية التخلق البشري…  

عرف بعد ذلك علم الأجنة، و بالتحديد في فترة ما بين القرن التاسع عشر و حتى الاربعينيات من القرن الماضي، مرحلة تعرف بالمرحلة التجريبية لعلم الأجنة… و اقتصرت على التجارب و المشاهدات… فجاء الدكتور “فون باير” ليقفز بعلم الأجنة بفضل أبحاثه من المرحلة التجريبية و النظريات، إلى مرحلة صياغة المفاهيم الجنينية…

 و كان لتقدم العلم و تطور الأجهزة الطبية تأثير كبير على مسار البحوث العلمية في هذا المجال، لينتقل علم الأجنة إلى مرحلة التقنية و استخدام الأجهزة، و تصبح معلوماته أكثر دقة من اي وقت مضى! فقد ساعد المجهر الإلكتروني، و آلات التصوير المتطورة، و ظهور الحاسب الآلي، و غير ذلك من أجهزة العصر الحديثة… العلماء بشكل كبير على فهم مراحل التخلق الجيني و بالتالي وصفها وصفاً دقيقاً و مصوراً… تماماً كما جاء في كتاب الله عز و جل  قبل اربعة عشر قرناً!

ففي القرن السابع الميلادي، أعطانا كتاب الله عز و جل، بياناً واضحاً في مسألة تخلّق الإنسان، وذكر كل الأطوار و المراحل التي يمر بها  اثناء تخَلّقه: { وقد خلقكم أطواراً } [نوح١٤]. بل و أعطى بأسلوب راقٍ جداً، كل طور تسمية خاصة تصف وصفاً دقيقاً، شكله و حالته و أهم التطورات التي تطرأ عليه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَعَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً  فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون١٢-١٤].  
لقد قسم الله سبحانه و تعالى في هذه الآيات الكريمة  مراحل تطور الجنين الآدمي إلى عدة مراحل:

مرحلة النطفة:

و النطفة لغة هي القليل من الماء، ( مايعادل قطرة تقريباً ) و تمر خلال تكوينها من عدة اطوار:

 أ- طور الماء الدافق:

فماء الرجل يخرج دافقا (أي متدفقا من تلقاء نفسه…)  و يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَلِينْظُرِ الإِنْسانُ مِمّ خُلقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِق…} [الطارق٥-٦].

و قد أثبت العلم الحديث، أنه من شروط الإخصاب أن تكون منويات الرجل حيوية، متدفقة، و متحركة… و كذلك الشأن بالنسبة لبويضات المرأة.

ب- السلالة:

 السلالة لغة تحمل عدة معاني، من بينها: الشيء المسلول، أي المستخرج برفق… و من معانيها أيضاً السمكة الطويلة. و كما جاء في قوله تعالى: ((… وجعلنا نسله من سُلالة من ماءٍ  مهين)) [السجدة٨]. و المقصود هنا بالماء المهين، ماء الرجل… الذي يحتوي على حيوانات منوية، وهي تشبه إلى حد بعيد السمكة الطويلة، و تستخرج برفق من الماء المَهين.

ج- النطفة الأمشاج:

يقول تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الانسان٢]،
في هذه الآية الكريمة، نجد أن كلمة أمشاج، رغم كونها صيغة جمع، فإنها تصف النطفة، و التي تعتبر اسما مفرداً!!! لماذا ياترى؟؟؟ و كلنا نعرف أن قواعد اللغة العربية، تحتم على الصفة أن تتبع الموصوف في الافراد، و التثنية و الجمع…!

خلال عملية الإخصاب، يسافر ماء الرجل عبر المهبل، ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات، أو ما يسميه العلماء بقناة فالوب، و لا يصل من ماء الرجل إلا القليل، و رغم احتوائه على ملايين الحيوانات المنوية، فإنه لا يخترق البويضة إلا حيوان منوي واحد ( في غالبية الأحوال ).

فيحدث عقب ذلك مباشرة، تغير سريع في غشائها، يمنع دخول بقية الحيوانات المنوية… و بدخول هذا الحيوان المنوي في البويضة، تتكون النطفة الأمشاج، أي البويضة الملقحة. و تعرف علميا باسم Zygote.

و كلمة أمشاج جاءت في صيغة الجمع، لتصف النطفة التي رغم كونها مفردة، فإنها تعني  كائن يتكون من خلائط تحمل صفات الأجداد، و الأحفاد لكل جنين… و بمجرد أن تصبح النطفة أمشاجاً يحدث التالي:

طور الخلق

و هو بمثابة الحجر الأساس لوجود الكائن الآدمي… و بما أن  الحيوان المنوي يحتوي  على ٢٣ حامل وراثي، مثله مثل البويضة تماماً، ليكون مجموع هذه الحاملات ٤٦ حاملا وراثيا، فتُخلق أول خلية بشرية…

التقدير( البرمجة الجينية ) و هي عملية تبدأ بعد ساعات من تخلق أول خلية، يتم خلالها تحديد الصفات التي ستظهر على الجنين في المستقبل و كذلك الصفات التي ستظهر في الأجيال القادمة… و يتم تقدير أوصاف الجنين و تحديدها كما أشار الخالق سبحانه و تعالى إلى تعاقب هاتين العمليتين في قوله: {  قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) } [عبس١٧-١٩].

تحديد الجنس:

و يدخل في نطاق التقدير الذي يحدث في النطفة الامشاج، حيث تتحدد الذكورة و الأنوثة، و قد أشار الله سبحانه إلى ذلك قائلاً: { وَ أنّهُ خَلقٓ الزّوْجٓيْنِ الذّكَرَ و الأنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) } [النجم ٤٥-٤٦. فإذا كان الحيوان المنوي الذي نجح في تلقيح البويضة، يحمل كروموزوم (y)، فإن المولود يكون ذكراً، و إذا كان يحمل كروموزوم (x) فإن المولود يكون أنثى…

الحرث:

عند نهاية مرحلة النطفة الأمشاج، ينغرس كيس الجرثومة في الرحم، تماما كما تنغرس البذرة في التربة أثناء عملية الحرث. و قد قال تعالى في سورة البقرة: { نِساؤُكمْ حَرْثٌ لَكُم فَأْتوا حَرثَكُم أَنّا شِئْتُم } [البقرة٢٢٣]. و بهذا الإنغراس يبدأ طور الحرث، و ذلك في اليوم السادس عشر من عمر النطفة…  و لفظ ” حرث ” الذي جاء في القرآن الكريم، يبقى أدق و أبلغ من لفظ ” انغراس ” الذي يستخدمه علماء الأجنة!. و بوصولها إلى طور الحرث، تكون النطفة قد أكملت آخر أطوارها لتنتقل إلى مرحلة جديدة و هي مرحلة العلقة…

لا ننسى أن نشير إلى أن الله سبحانه و تعالى قد وصف الرحم ب: ” القرار المكين “، { ثُمّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ }[ المؤمنون ١٣]. و القرار لغة هو الاستقرار و الراحة، و كما هو معروف، فإن جسم الانسان يرفض و يطرد أي جسم غريب… لكن الله سبحانه جعل من هذا الرحم مأوى مستقراً و مريحا لهذا الجنين… بل و جعله مكيناً ايضاً، أي مثبتاً بقوة… فسبحان الله احسن الخالقين.

مرحلة التخلق البشري:

وهي مرحلة تمتد بين الأسبوع الثالث إلى نهاية الأسبوع الثامن، و تمر عبر أربعة أطوار، العلقة و المضغة، و العظام، و كساء العظام لحماً.

طور العلقة:

العلقة لفظ يراد به كل ما تعلق و التصق بشيءٍ ما، كما يراد به دودة تعيش في البرك، تتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها، و تعني كذلك الدم الشديد الحمرة أو الغليظ القوام او الجامد، كما تعني الدم الرطب… و سنلاحظ كيف تناول العلم كل هذه المعاني للعلقة. فبعد عملية الحرث، تبدأعملية تعلق الجنين بالمشيمة، و ذلك حوالي اليوم الخامس عشر، و هذا ما يشير إليه المعنى الأول للعلقة.

في هذا الطور، يأخذ الجنين شكل الدودة، و يبدأ في التغذي على دماء الأم، تماما كما تفعل الدودة العالقة التي تتغذى على دماء الحيوانات. و هذا يتطابق مع المعنى الثاني للعلقة في اللغة.  و بما أن الدماء، في هذا الطور، تكون محبوسة داخل الأوعية الدموية، رغم سيولتها، و لا تبدأ في الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث، فإن الجنين يبدو كالدم الجامد أو الغليظ القوام مع كونه رطباً.

و هذا ينطبق على المعنى الثالث لكلمة العلقة في اللغة. فسبحان الذي أعطانا وصفاً دقيقاً للملامح الأساسية، الخارجية و الداخلية لهذا الطور.

طور المضغة:

يكون الجنين في اليومين ٢٣ و ٢٤، في نهاية مرحلة العلقة، ثم يتحول إلى مرحلة المضغة في اليومين ٢٥ و ٢٦. و يكون هذا التحول سريعا جداً، إذ تأخذ الفلقات في الظهور لتصبح معلماً بارزاً لهذا الطور. و يصف القرآن الكريم هذا التحول السريع، من طور العلقة إلى طور المضغة باستخدام حرف العطف (ف) الذي يفيد التتابع السربع للأحداث: (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً).

و يحمل لفظ المضغة في اللغة عدة معانٍ، من بينها: شيء لاكته الأسنان، شيء صغير من المادة، كما تعني ما يمكن مضغه… و قد اوضح لنا علم الأجنة الحديث مدى الدقة في إعطاء هذا الطور اسم المضغة، فظهور الفلقات في هذا الطور يعطي شكلاً يشبه آثار طبع الأسنان في المادة الممضوغة، تتغير باستمرار، تماماً كما يتغير شكل الآثار التي تطبعها الأسنان على مادة حين مضغها…

و في نهاية هذه المرحلة يكون طول الجنين سنتمتراً واحداً تقريباً، و ذلك مطابق للمعنى الثاني من معاني المضغة( الشيء الصغير من المادة) و هذا المعنى ينطبق على حجم الجنين الصغير، فكل أجهزة الإنسان تتخلق في هذه المرحلة، مرحلة المضغة، فيكون أصغر حجمٍ لإنسانٍ تخلقت كل أجزائه، لينطبق عليه المعنى الثالث لكلمة ” مضغة ” ( حجم ما يمكن مضغه ).

و لاحط العلماء أن الفلقات سرعان ما تتحول إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة، من بينها أعضاء و أنسجة تتكون في مرحلة المضغة، و أخرى تتكون في مراحل لاحقة… كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة: { … ثُمّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلّقَةٍ }[ الحج٥].

طور العظام:

 فيها يبدأ الهيكل العظمي الغظروفي في الإنتشار في الجسم كله، ابتداءً من الأسبوع السابع. فيأخذ الجنين شكل الهيكل العظمي.

و لعل تكوين العظام هو أبرز حدث في هذا الطور، حيث ينتقل الجنين من طور المضغة ذات الشكل المبهم، الذي لا تظهر فيه ملامح الشكل البشري، إلى بداية تكوين الهيكل العظمي، و ذلك في فترة زمنية وجيزة، ليعطي للجنين شكله و مظهره الآدمي.

و لا يوجد مصطلح أبلغ من مصطلح” العظام” الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور من حياة الحميل، فهو أهم تغيير في مرحلة بنائه الداخلي: و هو تحديد شكله، عكس ما كان عليه أثناء طور المضغة، { فَخَلَقْنا المُضْغَةٓ عِظاماً}[المؤمنون١٤].

طور الكساء باللحم

 يأتي مباشرة بعد طور العظام، أي في نهاية الاسبوع السابع حتى نهاية  الاسبوع الثامن، { فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْماً }[ المؤمنون١٤].

و فيه تنتشر العضلات حول العظام و تكسوها لتبدأ الصورة الآدمية في الإعتدال. و بعد إتمام تكوين العضلات يبدأ الجنين في التحرك… و يعتبر هذا الطور هو نهاية التخلق، كما اعتبرها العلماء نهاية لمرحلة الحميل Embryo لتأتي بعدها مرحلة الجنين Fétus التي توافق مرحلة النشأة كما في قوله تعالى: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون١٤].

طور النشأة:

النشأة كلمة مشتقة من فعل نشأ، و تعني بدأ، نما، ارتفع، و ربا. يبدأ هذا الطور مع بداية الأسبوع التاسع، أي بعد طور الكساء باللحم، و يستغرق فترة زمنية كما دل على ذلك استعمال (ثم) كحرف عطف، و الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء و النشأة خَلْقاً آخَر…

ففي فترة ما بين الاسبوعين التاسع و الثاني عشر، يبدأ حجم الرأس و الأطراف في التوازن، و تتخذ ملامح الوجه المقاييس البشرية المألوفة، كما يقول الخالق سبحانه: {الذي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ في أيّ صورَ ما شاءَ رّكبَك} [الإنفطار٧-٨]. و تستمر مرحلة النشأة حتى الولادة…

يحتاج هذا الموضوع  بالذات، إلى مجلدات…  لكنني اختصرت ما استطعت… فهنيئاً لنا بديننا و صلى الله على نبينا محمد و على آل بيته الكرام و سلم تسليماً.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافق المزيد